حركة بن عبدات.. هل هي أول ثورة في الوطن العربي

عن شبكة حضرموت العربية - الكاتب طالب الحق قال بن عبدات راسي ما يمد القادية.. يومنا عاصي وفال جابوا الرشاش والمدفع وصنعة ثانية.. لي تزوع بالجبال من النادر أن تجد شخصاً راشداً في حضرموت لم يسمع قط بحركة ابن عبدات الشهيرة، والتي لا زال صداها يتردد على أذهاننا عبر الأشعار والأراجيز التي يرددها الأحفاد قبل الأجداد.. ولكن قلة هم من حاولوا دراسة هذه الحركة واستسقاء الدروس والعبر منها.. فهل ما يردده إخواننا الجنوبيين بأن الثورة ضد الاستعمار البريطاني بدأت من جبالهم في ردفان بإشارة من بندقية راجح بن غالب لبوزة - رحمه الله - صحيح..!! أم أن أولى شرارات الثورة ضد الاستعمار البريطاني، خرجت من أرض حضرموت الأبية..؟! ولا أدري حقيقة لمَ لا يزال بعض الحضارمة يريدون أن يبدأوا تاريخهم في كل شيء من حيث بدأ الجنوب "اليمني"، وحضرموتهم تحرز قصب السبق في كل شيء قبل ذاك الجنوب..؟! عموماً سأترككم الآن مع نقل حرفي من كتاب "حضرموت والاستعمار البريطاني 1937 – 1967م" * وقد تعرض فيه المؤلف لحركة ابن عبدات ووجدت فيما كتب نبذة وافية عن الحركة قلّما تجدها في أي مصدر آخر تعرض للحركة. مع التنويه بأن النص التالي عبارة عن نقل "دون تصرف" وهو يحوي بلا شك وجهة نظر كاتبه، والتي لا اتفق معها بالضرورة في كل جوانبها. مع تمنياتي بأن ينقلكم النص لتلك الأجواء التاريخية العطرة، لنستنشق شيئاً من أريج العزة الحضرمية الذي اشتاقت له أنوفنا اليوم في حضرموت..!!
حركة ابن عبدات البداية والنهاية:
أثارت حركة صالح بن عبيد آل عبدات،1 في وادي حضرموت اهتمام المؤرخين والباحثين، الذين تعرضوا لتاريخ اليمن، وحضرموت خصوصاً، فقد راحوا يدرسون أسباب قيام الحركة، ومسارها، والنتائج التي أدت إليها. وقد اهتموا بوجه خاص بجانبين في هذه الحركة، الجانب الأول: البسالة التي أبداها صاحب الحركة ومؤيديه، في مواجهة سلاطين حضرموت القعيطي والكثيري معاً ولفترة امتدت نحو عقدين من الزمن. والجانب الثاني: هو موقف بريطانيا المتأرجح بداية من الحركة، ثم الحازم والعنيف تجاهها. منذ البداية اختلف المؤرخون في وصف الحركة، فقد وصفها حمزة علي لقمان بالثورة، ووصف صاحبها بالثائر، أينما تعرض لها في مؤلفاته، ومقالاته التي اهتمت صحف عدن بنشرها آنذاك.2 وعنه أخذ مؤرخون آخرون، وساروا على نهجه في تناول أحداث المعركة. وقال عنها (الحركة) عبدالقوي مكاوي رئيس وزراء عدن في عام 1965م، بأنها الانتفاضة التي كانت بداية ليقظة الوعي الوطني في الجنوب.3 أما سلطان ناجي عند تقييمه الخاص لهذه الحركة، فقد قال: "إن ضرب الإنجليز لابن عبدات بالقنابل، وبجيش نظام حيدر أباد (الهند) صديق القعيطي، وجيش الليوي في عدن، كان متوافقاً وسياسة الإنجليز آنذاك والقاضية بدعم السلطانين القعيطي والكثيري بدون ثالث لهما.. وأن الثورة أو الانتفاضة كما تسمى تندرج في إطار الصراعات القبلية.. فهي خلاف قبلي، كان أحد أسبابه ذلك الصراع الذي عرفته حضرموت، وكان له أثر في إحداث تغيير في العلاقات الاجتماعية في المجتمع، وهو الصراع (العلوي الإرشادي). والذي سنتناول خلفياته ونتائجه على نحو تفصيلي في إطار تناولنا للأوضاع الاجتماعية في هذه الحقبة من التاريخ الحضرمي. وأياً كان تصنيف المؤرخين ووصفهم لحركة ابن عبدات، إلا أن هذه الحركة التي قد شغلت حضرموت بسلاطينها وحُماتها فترة طويلة من الزمن، قد تركت بصماتها فيما بعد على مسار وتطور الحركة الوطنية في جنوب اليمن، وقد استفاد الوطنيون من نتائجها ودروسها، فالأمر المؤكد أن حركة ابن عبدات لم ترق إلى مستوى الثورة، ولكنها ليست مجرد تمرد قبلي، أو نزاع عشائري كما ذهب لذلك سلطان ناجي. بل هي حركة أوسع في مداها وأثرها من تمردات القبائل السابقة، وأكثر أهمية على صعد مختلفة. ذلك أن ما كان ينقص الحركة هو ذلك البرنامج الوطني الشامل، كما تنقصها الأداة (التنظيم) لقيادة الحركة. ثم إن الثورة تعبير عن الرغبة في تغيير الواقع السائد في مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولم يكن لحركة ابن عبدات هذا الطموح الكبير. لذلك فالمؤرخون الذين أخذوا موقفاً وسطاً بين وصف الحركة بالتمرد القبلي أو وصفها بأنها حركة وطنية في بعض جوانبها، ربما كانوا أقرب إلى الواقع، ليس فقط واقع الحركة ذاتها، ولكنهم كانوا أقرب إلى وضع حضرموت، القبلي والعشائري شبه الاقطاعي المعزول، الذي لم يكن في حقيقته مؤهلاً لإفراز ثورة تحدث تغيّراً جذرياً في وضع البلد، وفي مكوناتها السياسية والاقتصادية. لقد جرت معظم الأحداث في مدينة الغرفة وماحولها، هذه المدينة التي تعود بشهرتها أساساً إلى حركة ابن عبدات،4 وتقع على بعد بضع كيلو مترات من مركز السلطنة الكثيرية، وهي منطقة وسط بين عشائر آل كثير التي يشكل تحالفها (الشنفري) قوام السلطنة، وهي بالإضافة إلى ذلك تقع في قلب وادي حضرموت حيث خصوبة الأرض، ووفرة المياه، وقد أضفى وقوعها على خط المواصلات بين شرق الوادي وغربه، وبين مدينة سيئون الكثيرية، ومدينة شبام القعيطية أهمية خاصة. في عام 1924م قام عمر عبيد بن عبدات، أخو زعيم الحركة، وشيخ آل عبدات، أحد فروع آل عمر، إحدى فخائذ آل كثير المنتمية لمجموعة القبائل الشنفرية،5 قام بالاستيلاء على الغرفة، ويبدو أن آل باعباد، وهم مشائخ روحيين سكنوا الغرفة، وعرفت باسمهم، قد ساندوا ابن عبدات، وشجعوه للاستيلاء على المدينة، نكاية في خصومهم السادة العلويين، الذين زاحموهم فيها، فاستدعوه إلى الغرفة، للاتكاء عليه في مواجهة خصومهم، ولما عُرف عنه من ثراء، ومن مواقف معادية للسادة. وعلى الفور أظهر ابن عبدات عزماً قوياً على حماية المدينة وتحويلها إلى مركز لنظام حكم جديد، يستند إلى المبادئ الإرشادية، وقام بتحصين المدينة، وفرض هيمنته عليها.6 ويبدو أن ابن عبدات تمكن من القضاء على المظالم في المدينة، وأزال طغيان الأقوياء من أهلها على الضعفاء، ونشر العدل والأمن، وجعل الناس – كما يقول البكري – على اختلاف طبقاتهم سواسية في الحقوق والواجبات.7 وعلى الرغم مما يبدو من مبالغة في هذا الكلام، إلا أن شعبية ابن عبدات، ربما جاءته نتيجة لمواقفه الاجتماعية التي يمكن أن نطلق عليها صفة العدالة، خصوصاً وأن زعماء القبائل وشيوخها، لم يكونوا على قدر كبير من المسؤولية تجاه الناس، فقد نال الناس على يدهم من الظلم الشيء الكثير. ثم اتجه ابن عبدات نحو تحويل المدينة إلى مركز اقتصادي مهم في وادي حضرموت مستعيناً بأمواله، وتجارته في سنغافورة، فضرب لنفسه عملة خاصة به، كان التداول يتم في المدينة بواسطتها،8 ولم يكن أياً من سلاطين حضرموت قد فعل ذلك قبله، فكانت محاولة للاعتماد على النفس، ولتأكيد تمايزه وإظهار قدراته المالية. في نفس الوقت راح يشجع الانتاج الحرفي في المدينة، بكل أنواعه، وقد كانت المدينة سوقاً، وموقعاً للمنتجات المحلية، وذلك برفع الضرائب المفروضة عن هذه المنتجات، كما فعل ذلك مع المنتجات المجلوبة إلى المدينة، في الوقت الذي كان فيه سلاطين آل كثير يفرضون المزيد من الضرائب على رعاياهم. وقام بمحاولة لخلق حالة من التعايش بين القبائل. ودعى إلى نبذ النزاعات والفتن العشائرية والفوضى القبلية.9 فهو كتاجر ناجح عرف أن التجارة في المدينة لا يمكن أن تتقدم بدون الأمن والاستقرار مصحوباً بالتشجيع والدعم. وفي سنة 1937م أنشأ ابن عبدات حصوناً محكمة، وحفر خنادق طويلة وابتاع ذخائر وبنادق بأثمان باهظة. وأحضر كثيراً من قبائل الحموم وأمدهم بالسلاح والذخائر والمؤن.10 ويظهر أنه كان يتوقع ردود فعل قوية من السلاطين والإنجليز. ففي بعض المصادر فإن مجموع الحصون التي كان قد بناها للدفاع عن المدينة وبالقرب منها بلغ 21 حصناً.11 وقد صمدت هذه الحصون في وجه الهجمات الأولى للسلاطين كما صمدت في وجه الغارات الأولى للإنجليز. ولنا أن نتصور حالة المدينة آنذاك. وبدلاً عن ذلك فإننا نستعيد الصورة التي قدمها لنا أحد المستشرقين الذي زار المدينة قائلاً: "اقتربنا من مدينة الغرفة وهي محاطة تماماً بأسوار وبوابات معلقة، ومطوقة بخنادق عريضة عميقة، وتمتد بساتين النخيل حتى سور المدينة، والصمت مرعب، وحتى نتفادى خندقاً كان علينا أن نفارق طريقنا بالقرب من إحدى البوابات الركنية، ويظهر أن الحراس كانوا نياماً لأنه ما أن أصبح صوت سياراتنا يسمع مباشرة، حتى وصلتنا أصوات الإنذار من خلف البوابة، وكنا قد ابتعدنا فقط قليلاً عندما انفتحت الأبواب سريعاً، واندفع منها مجموعة من الجنود وبنادقهم مشرعة، وصُعقت جماعتنا من الفزع، وصاحوا بأننا نتبع الدولة، عندها نزلت البنادق، وسمعنا صوت الترحاب، لكن سائقينا اندفعوا بأقصى ما أمكنهم من سرعة ليهربوا من هذا المكان العدواني".12 وهذا الوضع في الغرفة، مع ازدياد مكانة ابن عبدات لدى القبائل والعامة كان كفيلاً باستثارة سلاطين حضرموت. وكان السلطان الكثيري يعرف أنه ليس بإمكانه القضاء على ابن عبدات، خصوصاً أن المناوشات بين ابن عبدات وجيرانه من آل فاس وآل مهري وهما فخيذتان تنتميان إلى آل عمر الحكام الأساسيين في السلطنة الكثيرية قد بلغت حد اقلال أمن السلطنة، وتهديد مواقفها وحلفائها، وكان ابن عبدات من القوة بحيث لم يعد بالإمكان السيطرة عليه لذا فقد تكوّن على الفور حلف يضم السلطنة القعيطية، وسلاطين آل كثير وحلفائهم تدعمه بريطانيا لمواجهة الموقف. أما البريطانيون فقد قدموا دعمهم للسلطان الكثيري استناداً إلى معاهدة الحماية 1918م. ولكن الوضع راح يتطلب تدخلهم المباشر لحسم الموقف، حينها قام المستشار الإنجليزي انجرامس بمحاولة فاشلة في سنة 1938م لاقتحام المدينة ولكنه مني بالفشل الذريع، وقاموا بنفس الوقت بالهجوم على قبائل الحموم لكسر شوكة ابن عبدات وإضعافه، ثم كرروا هذا الهجوم على المدينة في العام التالي 1940م.13 وهذه المرة استعانوا بسلاح الطيران الجوي الملكي، وراحت طائراتهم تقصف الغرفة، حيث اشتركت تسع طائرات في هذه العملية من نوع "الفنسنت القاذفة للقنابل" ولمدة تسعة وعشرين يوماً لكن ابن عبدات صمد، وحققت العملية فشلاً ذريعاً، رغم ما أصاب تحصينات المدينة من أضرار كبيرة. وعجز البريطانيون عن تحطيم ابن عبدات. أو الحصول على موافقته على معاهدة الاستشارة التي رفضها. كما عجزوا عن إرغامه على الاعتراف بسلاطين آل عبدالله الكثيريين. أبناء عمومته.. حلفاء الإنجليز الرسميين.14 في نفس العام مات صالح عبيد، مموّل الحركة وقائدها، وقبله مات أخوه عمر عبيد، فتولى قيادة الحركة ابنه عبيد صالح بن عبدات. الذي عاد من المهجر مع بداية الحرب العالمية الثانية، خوفاً على الغرفة التي تعرضت لهجوم كبير من جانب البريطانيين، وتشير الأحداث إلى أن القائد الجديد للحركة أخذ يتمسك بمواقف والده وعمه من أمور مهمة، فقد رفض معاهدة الاستشارة مع البريطانيين، أو التوقيع على الهدنة التي تقرر تجديدها لعشر سنوات من 1940م – 1950م، وهو الأمر الذي أثار غضب الإنجليز كما استمر في مواقف والده العدائية من سلطنة آل عبدالله الكثيرية، فضيّق عليه الحلف المعادي بقيادة بريطانيا الخناق، حتى أنه عجز عن استخدام الموانئ الصغيرة الواقعة في نطاق سيطرة حلفائه الحموم لضمان وصول الإمدادات والأسلحة والمؤن.15 فراح يبحث عن المزيد من التحالفات مع القبائل المعادية للسلطنتين، ويبدو أنه أقنع عدداً من قبائل الصيعر ونهد للإنضمام إليه، وأطلق نداءات جديدة لقبائل حضرموت لمساندته. وفي محاولة لتوحيد جهود القوى القريبة منه استقطب بعض الرموز الاجتماعية التي كانت على خلاف مع العلويين الذين وقفوا مع السلطة، ومن هذه الرموز الإرشادية محمد بن عبيد بن عبود، وهو من أصول فلاحية، كان قد تلقى تعليمه في تريم، ثم هاجر إلى أندونيسيا، وارتبط هناك بالحركة الإرشادية وبجمعيتها الإصلاحية، وأصبح سكرتيراً لها وعضواً بارزاً فيها.16 وهناك ارتبط بعلاقات وديّة مع ابن عبدات وعند عودته انضم إلى حركته المعادية لسلاطين آل كثير وحلفائهم العلويين. كما استقطب شخصية قضائية معروفة آنذاك وهو القاضي محفوظ سعيد ثابت المصلي. وهو من أكثر القضاة في حضرموت تحرراً وأشدهم تأثراً بالحركات الفكرية الحديثة، وأحسنهم استعداداً لتقبل كل إصلاح. وعمل مع السلطان علي بن صلاح القعيطي، وكان سنداً له في مواجهة المستشار البريطاني (انجرامس) كما تولى عدة مناصب حكومية، وقد أصبح أوثق حلفاء ابن عبدات، لذا فقد تولى القضاء في المدينة.17 كما واصل تأييده لعبيد صالح. وقدم الاثنان محمد بن عبود و المصلي، خدمات جليلة للحركة، وأصبحا أكثر أعضائها أهمية في مجلس الإشراف على المدينة، الذي عيّنه ابن عبدات لمساعدته في إدارة شئونها. وهو المجلس المكون من ممثلي فئات مختلفة.18 ومما لاشك فيه أن الجهود المتواصلة لزعيم الحركة، وللقائد الجديد، قد ساعدت على وضع الحركة ومعها قوى اجتماعية مختلفة في الصدارة لمواجهة البريطانيين. وكانت تعبيراً عن موقف شعبي، راح ينمو وينمو في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد، يرفض الاحتلال، ويمثّل شكلاً من أشكال مقاومته. لكن الحركة بسبب تكوينها القبلي، وتأرجح قيادتها بين ماهو وطني، وماهو محلي، ما هو عام وماهو خاص، وقعت في أخطاء كثيرة سهلت ضربها فيما بعد.19 ولبعض الوقت فإن فشل الهجوم البريطاني على ابن عبدات، مع تصاعد العمليات العسكرية في أوروبا، وامتداد هذه العمليات حتى شرق أفريقيا وخليج عدن قد منح ابن عبدات فرصة لالتقاط الأنفاس، كما أن البريطانيين بدورهم قد رأوا أن من مصلحتهم ترك ابن عبدات وشأنه لبعض الوقت، فاقترحوا عليه عقد هدنة، وافق عليها في 23 إبريل 1940م.20 وفي فترة الهدنة قام الحاكم العام في عدن بزيارة ابن عبدات في موطنه في الغرفة، في جو مشحون، كانت آثار القصف الجوي البريطاني ماثلة، وعند وصوله إلى المدينة قاده ابن عبدات إلى أعلى حصن في المدينة ليريه آثار القصف المدمر على المدينة، وكان يخاطب الحاكم الإنجليزي، ويده ممسكة بمسدسه المحشو بالرصاص مشيراً بيده الأخرى ذات اليمين وذات الشمال. وكانت تلك فرصة سانحة للقائد البريطاني لاستطلاع أحوال ابن عبدات وتحصيناته.21 واستغل ابن عبدات فترة الهدوء النسبي التي وفرتها له الهدنة، وواصل تحصين مواقعه، والبحث عن حلفاء جدد. فقد حاور بعض فخائذ آل كثير، ومنهم آل منيباري الذين تأثروا بالحركة الإرشادية، وآل كدة وآل عبدالعزيز، وكلهم من الفخائذ المنتمية كابن عبدات نفسه إلى فرع آل عامر الكثيري، المناوئ لفرع آل عمر المنتمي إليه آل عبدالله سلاطين سيئون وحلفاؤهم من آل طالب، وآل فاس، وآل مهري. وذاع صيت الغرفة، وابن عبدات كبطل في نظر الناس. وأخذ الشعّار الشعبيون يتبارون في مديحه،22 وبدت لهم العرفة كمدينة باسلة، صامدة في وجه الإنجليز، حتى قيل فيها ما لم يقل في أي مدينة أخرى كانت عرضة لهجمات البريطانيين، وراح الناس يرددون هذا البيت تفاخراً بالمدينة: ردوش يالغرفة كما برلين .... مستر جرامس هو وشمبرلين وبرغم اللهجة الدارية في بيت الشعر هذا، فإن الشاعر قد استحضر في ذهنه حينها صورة لمدينته لا يضاهيها إلا مدينة برلين عاصمة الألمان التي راح الحلفاء في السنوات الأخيرة من الحرب يقصفونها. ومن الواضه أن انجرامس وشمبرلين في نظر الشاعر كانا السبب فيما لحق بالمدينة من أضرار. وإذا كان انجرامس مشهور في حضرموت. فإن شمبرلين كان يتولى آنذاك رئاسة الوزراء في بريطانيا حتى 10 مايو 1940م. وقد اجبر على ترك رئاسة الوزراء لونستن تشرشل.23 إلا أنه فيما يتعلق بسياسة الهدنة في حضرموت فإن البريطانيون قد حافظوا عليها. دون تغيير يذكر حتى بدت نهايات الحرب العالمية تقترب شيئاً فشيئاً. لكن أهم التحالفات التي واجه بها ابن عبدات تحالف الخصوم، كان الحلف مع السلطان علي بن صلاح القعيطي، أحد أقطاب السلطة القعيطية والذي كان عالماً وأديباً ومؤرخاً، وسياسياً ذا شخصية مؤثرة وقوية.24 تأثر برواد الفكر الأوائل، الأفغاني ومحمد عبده، ورشيد رضا، معتدلاً شديد الاهتمام بالحركات التحررية في جميع أنحاء العالم، وخاصة في البلاد العربية يكره الاستعمار ويميل إلى القيام بإصلاحات عامة في حضرموت، وضرورة إدخال الأنظمة الحديثة في التعليم، تعاون في البداية مع انجرامس في مواجهة الفتن وأسباب الفوضى والتناحر، لكنه سرعان ما اختلف معه، وفقد الاثنان الثقة في بعضهما البعض، خصوصاً بعدما حرّض انجرامس السلطان صالح على عزله من منصبه، كنائب للسلطان في شبام والقطن. وقد كان ذلك سبباً في ميل علي بن صلاح إلى ابن عبدات الثائر ضد البريطانيين.25 ينتمي ابن عبدات وعلي بن صلاح إلى سلطنتين اختصمتا وتقاتلا طويلاً، وكلاهما كان زعيماً في قبيلته ومؤثراً وطموحاً رافضاً للإنجليز، لكن الأول خرج برفضه إلى العلن وقاتل البريطانيين. الأول كان إرشادياً والإرشاديون كانوا دعاة التغيير الاجتماعي، والثاني كان منفتحاً على كل جديد. هذه الأسباب مجتمعة قاربت بين الاثنين، وربما ساعد على هذا التقارب أيضاً محفوظ المصلي قاضي ابن عبدات الذي عمل قاضياً مع علي بن صلاح في شبام. والاثنان أرادا الاستفادة القصوى من هزائم الحلفاء أمام دول المحور في الحرب العالمية الثانية. وقد عوّلا على ذلك كثيراً وأرادا أن يهيئا نفسيهما لمواجهة بريطانيا وإعلان الثورة عليها. وفي السنوات الأولى من الحرب كانت بريطانيا تداري هؤلاء وأمثالهم من الذين أخذوا يرفعون رؤوسهم بفضل الانتصارات الألمانية ويقولون للبريطانيين لا. وقد كان ابن عبدات أكثر هؤلاء قوة وجرأة، وأشدهم عداء. وقد احتل هذا الموقع دون منازع ليس في حضرموت وحدها ولكن في جنوب اليمن كله.26 وفي البداية فإن علي بن صلاح قدم التسهيلات لابن عبدات من موقعه كحاكم للقطن، فقد سمح بتجمع القبائل المؤيدة لابن عبدات، ومرور الإمدادات والأسلحة إلى الغرفة بعدما حوصرت، ثم تطورت العلاقة بين الاثنين، وعقدا اتفاقاً مهماً بقي طي الكتمان حتى نهاية الحرب العالمية وفشل الحركة. وتم التوقيع على الاتفاق في 28 رجب 1359 هـ الموافق 23 اغسطس 1940م. ونص على العمل من أجل تقوية مركز كل منهما، وجلب الخير لبلاده. وأن يقوم علي بن صلاح باحتلال شبام لضمان الاتصال بين طرفي الاتفاق. والوقوف صفاً واحداً ضد اعتداءات السلطنتين القعيطية والكثيرية، واتخاذ الحذر والحيطة، وتبادل المعلومات والأخبار عن التحركات المعادية، والتعاون فيما بينهما للإنفاق على الأغراض العسكرية في حالة الاعتداء على أحد الطرفين.27 والاتفاق عسكري في نصوصه، وفيه إعلان عداء صريح من علي بن صلاح للسلطة القعيطية التي كان في يوم من الأيام نائباً للسلطان فيها28 وتلميح غير صريح للتحركات المعادية والمقصود بها التحركات البريطانية. ومن المؤكد أن علي بن صلاح قد رغب أن يتحمل ابن عبدات نفقات عملهما العسكري المشترك نظراً لكثرة أمواله وغناه. فهو بشهادة المؤرخين يعيش حياة بذخ خرافية ولديه أراضي واسعة وعمارات وفنادق وغيرها.29 وليست لعلي بن صلاح هذه الامكانيات. ودون أن يغمط حق الاثنين معاً في القول بمعاداتهما للبريطانيين ورغبتهما المشتركة في النهوض ببلدهما، فإن اتفاقهما يشير إلى أنهما أرادا مواجهة خلافات كثيرية – كثيرية، و قعيطية – قعيطية وهي خلافات قبلية لا تخلو من مصالح شخصية، ونزوع للتفرد بالسلطة، أو التحلل من أسر السلطة وهيبتها، فابن عبدات يواجه أبناء عمومته سلاطين آل عبدالله. وعلي ابن صلاح أراد مواجهة ابن عمه السلطان صالح بن غالب، أكثر سلاطين حضرموت حظوة لدى بريطانيا. وهما كثائرين يتطلعان إلى عزة شعبهما واستقلاله – وإن كانت فكرة الاستقلال لم تبرز بوضوح في تفكير قيادة الحركة – فإنهما حاولا الاتصال بالجيران، حكومة صنعاء والمملكة العربية السعودية،30 ومن المؤكد أن الدولتين قد فضلتا النأي بنفسيهما عن هذا الصراع، فعواقبه غير معروفة، والمنطقة تقع تحت النفوذ البريطاني. وبريطانيا رغم محنتها في الحرب العالمية الثانية فهي دولة عظمى يحسب لها ألف حساب. وفي عام 1944م انتهت مدة انجرامس، المستشار الداهية، والضابط السياسي المتغطرس، ومهندس معاهدة الاستشارة، وصاحب فكرة المحميتين الشرقية والغربية، وخلفه في منصبه، الضابط السياسي "فينسنت جلينداي". وفي هذه الفترة كانت نتائج الحرب العالمية قد بدت واضحة، فالألمان يتراجعون على كل الجبهات، وهزيمتهم أصبحت محتومة، وأصبح على البريطانيين أن يضعوا حداً لحركة ابن عبدات، بعد أن أدركوا أن عوامل ضعف حقيقية قد انتابت حركته. وأن الغرفة (المدينة) الرمز لم تعد كما كانت عليه في نظر سكان المنطقة. كما أن صورة ابن عبدات (الابن) قد تغيرت مع الأيام. لقد فرض ابن عبدات على المدينة وعلى الفلاحين الذين يعملون في الحقول المجاورة لها بعض الاجراءات التي بدت تعسفية، وذلك بهدف الحصول على المال. كان من بين هذه الاجراءات شراء المحصول من الفلاحين بأقل الأثمان، ليعود بعد ذلك ليبيعها لهم ولسكان المدينة بأغلاها. كما أحدث جمركاً على الطريق وكان يأخذ مما يمر من البضائع نحو العشور (10%) وقيل أنه استولى على قوافل التموينات الغذائية التي كانت تأتي إلى مدن وقرى حضرموت لإغاثة منكوبي المجاعة التي ألمت بحضرموت في عام 1943 – 1944 م. وقام بعض أفراد القبائل التي تحالفت معه بالإغارة على القرى الآمنة، ربما بسبب عدم قدرته على دفع أجورهم كجنود عملوا ضمن قوته العسكرية. وتناقل الناس أخبار الحركة، فكان ذلك كافياً للتأثير على موقف الناس منها.31 هذا التغير في سلوك ابن عبدات، الذي وصفت حركته بالعدل، إنما يعود إلى سبب هام وهو أن زعيم الحركة اعتمد في تمويل المجهود العسكري لحركته على أملاكه ومدخولاته في جنوب شرق آسيا، وكانت هذه الأملاك الكبيرة ومردودها وافر. ومع دخول اليابان الحرب ضد الحلفاء، دخلت قواتها سنغافورة وأندونيسيا عام 1942م.32 وكانت النتيجة أن توقفت التحويلات المالية إلى حضرموت، والتي كان جزءاً منها يمول العمليات العسكرية للأطراف المتصارعة، وفقد ابن عبدات مصدر تمويله الأول، ونقص مابيده من مال، وراح يبحث عن مصادر مالية لمواجهة أعباء المعركة، ولم يكن هناك بد من اللجوء إلى الضرائب. ولكنه جار على الناس في جبايتها. وفي هذا الوقت كانت بريطانيا قد استكملت استعداداتها لمواجهة الموقف، وفي يوم 23 يناير 1945م، وجهت لابن عبدات إنذاراً أخيراً للاستسلام، تحت الضمانة البريطانية، مقابل العيش بحرية في عدن مع تعويض مالي، وطلبت منه فتح أبواب المدينة، وكذا الحصون الواقعة خارج أسوارها، وتسليم الأسلحة والذخائر التي بحوزته، وكذا الأفراد. ورفض ابن عبدات الإنذار وقرر المقاومة. تألفت الحملة البريطانية من جيش عدن الليوي، ومن جيش حيدراباد، مجهزة بأحدث الدبابات والمصفحات والمدافع من العيار الثقيل، وقد وصلت هذه الحملة إلى المكلا في فبراير 1945م. وقد انضمت إليها قوات السلطنتين القعيطية والكثيرية، والأفراد من آل فاس وآل مهري وآل طالب،33 وقد تجمعت هذه القوات في وادي حضرموت في مارس من العام نفسه، وانتشرت على الطرق المؤدية إلى الغرفة، لقطع الطريق على أنصار ابن عبدات من الصيعر والحموم وآل كده من التسرب إلى المدينة، وكانت هذه القوات تحت إمرة قائد عسكري يدعى أحمد بن عبدالقادر العيدروس.34 ومن حصون آل مهري وآل فاس تقدمت هذه القوات نحو المدينة، تقصف تحصيناتها بقوة، ودافع ابن عبدات ورجاله باستماتة في الأيام الأولى للهجوم. كما أدّت الخنادق دورها في عرقلة المصفحات، لكنها لم تمنع الخسائر التي لحقت بالمدينة والمدافعين عنها. وتراجعت في يوم 6 مارس (اليوم الثاني للهجوم) بعدما مهدت للهجوم الأخير في اليوم التالي. وفي نفس اليوم قتل المستشار العسكري لابن عبدات، ويدعى محبوب، بينما كان يحاول استطلاع قوة العدو في حصن آل فاس وفيما إذا كان من الممكن القيام بهجوم مضاد، لكن أمره عرف فقتل في الحال، وفي الصباح صدرت الأوامر للقوة بالزحف على المدينة، تسندها الطائرات والمدافع، فيما شقت المصّفحات طريقها عبر المرتفعات المؤدية إلى المدخل القبلي للمدينة تصب نار حممها على المدينة التي ضعفت مقاومتها.35 الأمر الذي سهّل للقوات المهاجمة اقتحام المدينة، وأدرك ابن عبدات أن الاستمرار في القتال سيتحول إلى عملية انتحارية له ولرجاله ولسكان المدينة الذين أرهقهم الحصار. وحين وقفت المدرعات أمام قيادة ابن عبدات طلب منه الضابط الإنجليزي الاستسلام. وحينها ظهر ابن عبدات بكامل سلاحه وقد وصفه حمزة لقمان حينها قائلاً: "كان شامخ الأنف مرفوع الرأس" فمدّ الضباط الإنجليز أيديهم لمصافحته، معترفين ببطولته وشجاعته وثباته. فصافحهم وهو يقول لهم: "نحن لم نسلم إلا حماية للسكان من قوتكم الكبيرة، وبعد أن وقف أصحابنا منا موقفاً سلبياً". وحملته مصفحة بريطانية مع ابنه أحمد إلى القطن، حيث نقلته طائرة عسكرية إلى عدن في 7 مارس 1945م. ونُفي إلى أندونيسيا حيث وافته المنية في مدينة بيتادي (بتافيا) عام 1963م.36 وخضعت المدينة لقوات جيش النظام القعيطي، الذي قام بتدمير حصونها، وبعد ذلك اتجهت القوى المنتصرة لمعاقبة أنصار ابن عبدات. فألقي القبض على علي بن صلاح بتهمة التآمر على سلطة صاحب العظمة السلطان صالح بن غالب، وحوكم وأدين ووضع تحت الإقامة في الشحر فمرض، فأرسل إلى عدن للعلاج فتضاعف المرض، ولما أشرف على الموت قررت السلطات البريطانية إعادته إلى مدينة (القطن) ليموت هناك مظلوماً مكلوماً.37 وألقي القبض على محمد بن عبود والمصلي، وحُكم عليهما بالسجن، وأُعدم هود باشميلة بعد محاكمة عسكرية على يد الإنجليز.38 وهكذا تمكنت القوات البريطانية وحلفاءوها من القضاء على حركة ابن عبدات، تلك الحركة التي مثلت حلقة وسط بين التمردات القبلية، وبين الحركة الوطنية التحررية التي رفعت شعار حق تقرير المصير، والاستقلال الناجز. وحققته بالاعتماد على الشعب. لقد عزى بعض المؤرخين أسباب فشل الحركة إلى التكوين العشائري للمجتمع. وتخلّف وعي السكان بالقضايا الوطنية، وجهلهم التي حرصت القوى المسيطرة على بقائه على حاله قرون طويلة.39 فيما عزى بعضهم الآخر هذا الفشل لنفس الأسباب مضيفاً إليها أسباباً أخرى، ومنها أن ابن عبدات لم يكن يقدّر حجم المعارضة البريطانية لمشروعه، وقدرتها العسكرية على ضربه إن هي أرادت، وقد أرادت.40 والتزاماتها تجاه السلاطين بالحماية في مواجهة الأخطار الخارجية والداخلية. إلا أن من المهم الإشارة إلى أن ابن عبدات قد فقد وسائل وإمكانيات كثيرة لتحصين حركته من السقوط المريع. فقد افتقرت الحركة إلى البرنامج في حده الأدنى، وكان قائدها عاجزاً عن تحديد المسار بوضوح كاف. وافتقرت الحركة إلى الأداة الموجهة "التنظيم" الذي ماكان بالإمكان في ظل غياب حشد الطاقات المؤيدة للحركة، والعمل بين صفوف الناس على نحو أفضل. وظهر عجز الحركة في مجال آخر وهو مواجهة النشاط الدعائي للخصوم، خصوصاً وإن معظم العلويين الذين تحكموا في المنابر الدينية والخطاب الديني، قد وق

تسلم اخوي على الموضوع كنت ادور عليه من زمان الله يحفظك

شكرا خوي على الاهتمام
بتارخ بلدنا الغاليه
تقبل مررروررري

مشكوووووووووووور خوي علا الموووووضوع